كلمة هيئة التحرير
“تحرير القدس” هو اصطلاح يتم عرضه في إسرائيل وكأنه لحظة تاريخية ذات صلة في الغالب مع احتلال أجزاء المدينة الشرقية في حرب الستة أيام. في أيامنا، يدعي الكثير أن القدس هي مدينة محرّرَة.
لم ننجح أبداً، نحن سكان القدس في الماضي أو الحاضر أو خريجي جهاز التعليم الإسرائيلي، أن نسوّي التناقض بين المدينة المحرّرَة التي تعلّمنا عنها في دروس التاريخ والتي تم تخليدها سنويّا باحتفالات يوم القدس، وبين إحساسنا كسكان في مدينة يتم تخطيط أيامها طِبقاً لصراعات، توتّرات، تفريقات ولا مساواة، والتي تغرق في دمج مستحيل بين الفقر والرماديّة وبين التفرقة والدعوية الدينية الفارغة. ‘تحرير القدس” يبدو لنا كفكرة متعالية، تماماً كتلك المدينة التي عِشنا فيها على ما يبدو.
إن الفرق بين” تحرير القدس” وبين القدس المحررة هو حجر الأساس لمشروع “ستة أيام في يونيو- رحلة صوب تحرير القدس”. الرحلة، والتي سوف تنطلق مسيرتها في يوم القدس (1.6.2011), بمناسبة مرور 44 سنة على حرب الستة أيام، والتي ستذاع في بثّ حيّ ومباشر (24/7) على شبكة طريق العربة التي تحوّلت إلى ستوديو متنقّل، بمرافقة لإصدار هذه المجلّة، التي تحوي مقالات بالعبرية والعربية وأعمال فنية تطالب باكتشاف فكرة “تحرير القدس”، كي تفحص هل تمّ تحرير القدس أم لا، كيف يتم تحريرها، ومن أيدي من. وكإعادة صياغة لأقوال رابي نحمان يمكننا القول أننا سنذهب لتحرير القدس في كلّ مكان نذهب إليه أثناء الرحلة. في الوقت الذي سنطالب به تحريرا في القدس، نحريرا لقدس، وربما أيضا تحريرا من القدس.
تمر رحلة الأيام الستة عبر محاور ومواقع ذات أهمية تاريخية، ثقافية وسياسية. سنلتقي في إطارها بمؤرخين، نشاطات سياسية، رجال دين، جغرافية متنوعة، فنانين، أساليب معمارية إلخ، في محاولة منا لأن نطرح أفكاراً تخترق حاجز القوالب الفكرية المعتادة حول المدينة. سوف تتم هذه اللقاءات العفوية مع رجال ونساء يعيشون أو يتجوّلون في أرجاء القدس. المقالات، الأعمال الفنية، الكاميرات، أجهزة التسجيل، بث الفيديو المباشر عبر الإنترنت والعربة الصغيرة والقديمة- بمثابة مدرّعة من طاقم بديل تعمل كسيارة البث التلفزيوني التابعة لـ “السلطة الذاتية”، تتنقّل بين الشوارع، في الطرقات والميادين وتستخدَم كنقيض متحرّك للمدينة المُعَمَّرَّة- كل هذا سيمكِّنا من القيام بالرحلة إلى تحرير القدس عن طريق وسيلة الاشتراك في النظرة والحديث، التي تبدّل بدورها، شتّى وسائل الحرب.
***
أحد الأمور الأولى التي أدركناها أثناء العمل على المشروع، والذي ينفذ كخيط الحرير عبر مقالات عديدة في المجلة، هو أننا اخترنا الغنيّ والمتعدّد حين خُيِّرنا بين اثنين- الجزئي والمكسور من جهة، والكامل والموحَّد من أخرى. وعلى إثر ذلك، فإن تحرير القدس بالنسبة لدينا، بادئ ذي بدء، هو التحرر من أطر النقاش المعتادة في أقاليمنا، على توجيهاتها السياسية (مدينة محتلة أو مقسّمة)، القومية (مدينة يهودية، فلسطينية أو ثنائية القومية)، والثقافية (مدينة مشطورة أو موحَّدة). نحن نعتقد أنّ مثل هذه الاصطلاحات تحوِّل المدينة من وعد لا نهائي إلى خسارة لا نهائية.
لكن في الوقت ذاته من المهم التنويه إلى أنّ المقالات، القصائد والأعمال الفنية التي تظهر في المجلة، مثلما الأحاديث والفعاليات التي يقوم بها المشاركون على الساحة، لا تطالب فقط بالإشارة إلى حاجة ماسة لتحرير المدينة، بل أيضاً تقترح اتجاهات ممكنة للتحرير المستقبلي، سواء قصدنا التحرير الروحي والديني، أو التحرير السياسي، القومي، النفسي أو الجنسي، التحرير الغذائي، التربوي والفلسفي، التحرير الجنساني والتحرير الإقليمي. لا وجود هنا لمخططات سياسية بعينها، كتلك التي بإمكاننا اصطحابها إلى طاولة المفاوضات في واشنطن، القاهرة أو رام الله، إنما هي مجرّد اقتراحات تعترف بأنّ التحرير بادئ ذي بدء، هو تحرير الوعي. إن الطريق إلى ميدان التحرير هي حالة وعي في البداية. تمر الطريق إلى ميدان التحرير عبر الفن، الشعر والكتابة، وها قد آن الأوان الذي لا بدّ للقدس فيه أن تخرج من ظلمات الشتاء وتنضمّ إلى ربيع الشعوب الذي يترعرع في المنطقة في هذه الأيام بالتحديد.
مثل أي وجهة نظر، كذلك وجهة نظرنا – ثلاثة رجال يهود من القدس الغربية- تظلّ محدودة. أثناء العمل سنحاول فسح المجال لتواجد وظهور أصوات ونظرات كثيرة، لكن من الواضح أن هنالك أصوات ضاعت إلى جانب أصوات اخترنا عدم طرحها على الساحة. في مرحلة التحضير للرحلة التقينا بيهودي كبير في السن يشتكي من حقيقة أنه فقط لابسي “الكيباه المُخيَّطة” هم من يحتفلون بيوم القدس. حين نوّهنا بأنه ربما لا يحتفل الكثير لعدم شعورهم بتحرّر القدس، أجاب هذا الرجل أن ملاحظتنا صحيحة لأنّ القدس لن تتحرّر طالما سيطر “الوقف” على الحرم الشريف. ‘’هذه طريقة واحدة لرؤية الأمور”، أجاب أحدنا، “لكنّا نعتقد أن الإنسان ليس بمقدوره التحرر طالما كان جاره غير متحرر”. ‘’وهذه أيضا طريقة للنظر إلى الأمور”، أجابنا الرجل متبسّماً.
لقد حاول الكثيرون تحرير القدس. بإمكاننا، عبر لائحة جزء، ذكر الصليبيين، صلاح الدين، البملماح، الفيلق الأردني والمظليّين. وأيضا في يومنا هذا فإن تصريفات التعبير “تحرير القدس” المختلفة” تظهر فيها نداءات إلى ساحة المعركة من خلال متطرفين من المتديّنين والقومجيين، والتي لا بدّ أن تتحقّق، دوماً، على حساب رجال الدين والقومية من الطرف الآخر. إن الانضمام إلى عُرف مواكب التحرير المهيبة لكن العنيفة هذه لهو مبالغ فيه ومتناقض في الوقت ذاته، ويبدو أن القدس، بتاريخها الخاص والمشكّك به، والتي تحمله كتاج وكسنام في ذات الوقت، تتطلبّ خطة مُهَلوَسة مثل هذه. " من اجل صهيون لا اسكت ومن اجل اورشليم لا اهدأ حتى يخرج برها كضياء وخلاصها كمصباح يتقد. ". (إشعياء، 62، 1)